بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الشافعي في وضع علم "أصول الفقه"
الإمام الشافعي له أثر فيما يتعلق بتكوين العلم الاسلامى…ولما كان وصف الأثر العلمي للإمام يستدعى تصوير شخصيته التي صدر عنها هذا الأثر نتحدث عن قسمين:
ما يتعلق بالشافعى في خاصة نفسه من نشأته وسيرته.
ما يتعلق بأثر الشافعي في وضع علم (أصول الفقه).
أولا: نشأة الشافعي وسيرته:
إن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو: "محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه".
يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في عبد مناف بن قصي …
والنبى(صلى الله عليه وسلم) "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف".
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) هاشمي والشافعي مطلبي وهاشم والمطلب إخوان ابنا عبد مناف.
منشأه رضي الله عنه:
خرج والد الشافعي رضي الله عنه من المدينة مهاجراً يفر من الظلم أو الفقر أو كليهما وأقام في غزة زمنا مع زوجة… وولد الشافعي سنة 15 هـ وبعد ولادته رضي الله عنه بقليل توفى والده… وفى نفس عام مولده توفى أبو حنيفة كما ذكر بن حجر وغيره.
وبمناسبة ذلك التوقيت هناك مزحة بين أصحاب الشافعية وأصحاب الحنفية. فأصحاب الحنفية يقولون "كان إمامكم مخفيا حتى ذهب إمامنا". وأصحاب الشافعية يردون بقولهم "لما ظهر إمامنا هرب إمامكم". وهكذا يمزح المتفقهون.
وأرجح الروايات تقول إن أم الشافعي هي "فاطمة بنت عبد الله المحض بن الحسن المثني بن الحسن بن على" وهذه السيدة التي يختلفون في نسبها ويختلفون في اسمها هي التي كفلت طفلها يتيما غريبا فقيرا ولم تزل ترعاه بعنايتها وتتولاه بهديها حتى أصبح بين المسلمين إماما.
وعندما بلغ الشافعي سنتين حملته أمه إلى مكة لينشأ بين قومه في قريش وذكر إن الشافعي رضي الله عنه كان في أول الزمان فقيرا، كان منزله بمكة في شعب الخيف.
وتعلم القرآن كله لسبع سنين – وقيل لما ختم القرآن دخل المسجد ليجالس العلماء.
وكان الشافعي يجيد حفظ القرآن وتدبره ويكثر من تلاوته وكان يختم القرآن في كل شهر ثلاثون ختمة وفى شهر رمضان ستين ختمة – ختمة بالليل وختمة بالنهار.
ويروى أنه كان يقرئ للناس في المسجد الحرام وهو ابن ثلاث عشر سنة وكان حسن الصوت في القراءة.
صفاته
نعت أحدهم الشافعي لبعض ملوك الشام بأنه كان رضي الله عنه طويلا سائل الخدين – قليل لحم الوجه – طويل العنق – طويل القصب – اسمر – خفيف العارضين – يخضب لحيته بالحناء الحمراء القانية – حسن الصوت – عظيم العقل – حسن الوجه – حسن الخلق – مهيبا – فصيحا – من أذرب الناس لساناً إذا اخرج لسانه بلغ أنفه.
وبسبب حسن وجه وحسن خُلقه أحبه أهل مصر من الفقراء والنبلاء والأعيان ووصفوه أهل مصر بقولهم " قدم رجل من قريش وشاهدناه وهو يصلى فما رأينا أحسن صلاة منه ولا أحسن وجها وعندما يتكلم ما رأينا أحسن كلاما منه فافتتنا به ".
وكان إذا تكلم كأن صوته جرس من حسنه. وقال بعضهم إذا كنا نريد البكاء "يقولون بنا نذهب إلى هذا الفتى المطلبى" الذي يقرا القرآن فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته…فإذا رأى ذلك أمسك…وكان الشافعي واسع العلم بالتفسير حتى قيل عنه انه إذا اخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل.
ويظهر أن الشافعي كان يعرف جياد الخيل ولعله كان من فرسانها وكان الشافعي متأثرا في خلقه بالرياضة البدنية التي شغف بها منذ الصغر فكان جسمه جسم رياضيين وكان خلقه خلق الرياضيين.
وكان لديه منذ طفولته نهم في شيئين: في الرمي وطلب العلم. تزوج الشافعي "حميدة" بنت نافع بن عنبسه بن عمرو بن عثمان بن عفان. فولدت له "أبا عثمان محمدا" وكان قاضيا لمدينه حلب "فاطمة وزينب".
ثانيا: ما يتعلق بأثر الشافعي في وضع علم "أصول الفقه"
قال الشافعي " وخرجت من مكة بعد أن بلغت. فلزمت نزيلا بالبادية أتعلم كلامها وآخذ اللغة .
يقول الرازي اعلم أن المتقدمين من أئمة اللغة والمتأخرين منهم اعترفوا للشافعي بالتقدم في علم اللغة واقروا له بكمال الفصاحة.
تفقه الشافعي أول أمره على مسلم بن خالد الزنجي مفتى مكة وبعدها قال مسلم للشافعي "أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتى وكان الشافعي حينئذ دون عشرين سنة".
ثم رحل الشافعي إلى المدينة ليطلب العلم على "مالك بن أنس" فقرأ الموطأ على مالك بعد أن حفظه عن ظهر قلب في مدة يسيرة وأقام بالمدينة إلى أن توفى مالك… تلقى الشافعي في المدينة عن غير مالك كإبراهيم بن أبى يحي…وخرج الشافعي إلى اليمن بعد موت مالك.
قال الشافعي: لما مات مالك كنت فقيرا فاتفق أن والى اليمن قَدم المدينة فكلمه بعضهم أن اصحبه لليمن وذهبت معه واستعملني في أعمال كثيرة وكاد الشافعي يُشغل بهذا العمل عن العلم وانتبه لهذا.
ثم بعد اليمن قدم الشافعي إلى بغداد فأقام سنتين واشتغل بالتدريس والتأليف ومن أشهر كتبه كتاب (الحجة) واشتهر الشافعي في العراق- رحمه الله- وسار ذكره في الأفاق واعترف بفضله الموافقون والمخالفون واستفاد منه الصغار والكبار من الأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه… ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه.
ومن أاخذ عنهم الشافعي في العراق (وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاس ابو سفيان الكوفي الحافظ)، (وحماد بن أسامة الهاشمي الكوفي) وغيرهم.
الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث
ولكنى نفهم هذا لابد أن نذكر الفقه من عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى عهد الشافعي.
كان التشريع في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوم على الوحي من الكتاب والسنة وعلى الرأى من النبي ومن اهل النظر والاجتهاد من أصحابه بدون تنازع ولا شقاق بينهم.
ومضى عهد النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين ولم يكن يفتى منهم إلا حمله القرآن الذين كتبوه وقرأوه وفهموا وجوه دلالته وناسخه ومنسوخه وكانوا يسمون "بالقراء".
ثم كان عصر بني أميه وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب ودخلت في دين الله أمم ليست أميه… هنالك استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار وسمى أهل هذا الشأن "بالعلماء".
واستعمل لفظ "الفقه" للدلالة على استنباط الأحكام " الشرعية وسمى أهل هذا الشأن "بالفقهاء".
ولما انقرض عهد الصحابة انتقل أمر " الفُتيا والعلم بالأحكام" إلى الموالى إلا قليلا.
وصارت كتابة العلم أمرا لازما… وجاء عهد العباسيين وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم فكان طبيعيا إن تنتعش العلوم الدينية في ظلهم.
وفى صدر العهد العباسى انقسم الفقه إلى طريقتين:
طريقة أهل الرأى والقياس وهم أهل العراق.
طريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز.
فلما أقام الشافعي في العراق زمنا غير قصير ودرس في كتب أهل الرأى وفى الوقت نفسه أن الشافعي كان متأثرا بمذهب أهل الحديث.
وبوضع الشافعي مذهبه القديم في بغداد كان في جل أمره ردا على مذهب أهل الرأي وكان قريبا إلى مذهب أهل الحديث.وكان غرض الشافعي في وضع أصول الفقه إن يقرب الشقة بين أهل الرأي وأهل الحديث ويمهد للوحدة التي دعا إليها الإسلام.
ثم خرج الشافعي إلى مكة وعاد إلى بغداد مرة أخرى وقام بها أشهرا ثم خرج إلى مصر في عام 198 هـ.
يقال إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة 199 ـ في أول خلافه المأمون وكان سبب قدومه لمصر إن العباس بن عبد الله استصحبه فصحبه وكان العباس هذا خليفة لأبيه على مصر.
وليس معنى ذلك أن الشافعي إنما خرج إلى مصر لمجرد الرغبة في مصاحبه الوالي فقد كان يتشوق إلى مصر من قبل.
وإذا كان الشافعي قد خرج إلى مصر يلتمس نشر مذهبه فهو إنما أراد إن يلتمس لأرائه ميدانا جديدا بعد إن أدرك النصر في الحجاز والعراق.
وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة.
ثم خرج من مصر للعراق وأقام بها شهرا ثم عاد لمصر وأقام بها إلى أن مات سنة 204 هـ .
وكان في آخر عمره عليلا شديد العلة في البواسير وبسببه أصيب بنزيف مستمر ومن أسباب موت الشافعي ما بذله من جهد عنيف في السنين الأربع التي أقامها بمصر ما بين التأليف والتدريس والمناظرة وسعيه في بث مذهبه و مدافعه كيد خصومه.
قال الربيع تلميذه: أقام الشافعي ههنا أربع سنين فأملى ألفا وخمسمائة ورقه، وخرج كتاب "الأم" ألفى ورقه وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في مده أربع سنين وكان عليلا شديد العلة.
وكان يلازم الاشتغال بالتدريس والإفاده في جامع عمرو. وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن فيسألونه. فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره… فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار ثم ينصرف إلى منزله.
وقد يكون هذا الجلوس المتوالي فى الجامع من أسباب ما أصيب به الإمام من مرض.
الإمام الشافعى فى مصر
هبط الإمام الشافعي مصر ومعه تلميذه أبو بكر الحميدى وسأله بعض الأكابر أن ينزل عنده فقال: أريد أن أنزل عن أخوالي من الأزد (قبيلة أمه) فذلك درس في الوفاء تعلمه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما هاجر إلى المدينة فنزل عند أخواله بني النجار.
وبعد وفود الإمام إلى مصر تم التعارف بينه وبين السيدة نفيسة رضي الله عنها وتوثقت بينهما الصلات وقد ربط بينهما نزوع إلى خدمة العقيدة الإسلامية وحرصهما على رفع منارها كل بطريقته وأسلوبه.
وكانت دار السيدة كريمة الدارين بمثابة الجزيرة المطمئنة القائمة وسط بحر صاخب متلاطم الأمواج.
وقد اعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط وفى طريق عودته إلى داره وفى غير ذلك من الأوقات.
وكان من عادته إذا ذهب لزيارتها صحبه بعض أصحابه ومع جلال قدر الإمام الشافعي وعلو درجته فانه إذا ذهب إليها سألها الدعاء متلمسا بركاتها.
وقد سمع منها أحاديث جدها المصطفى عليه السلام… وإذا أصابه مرض جعله يتخلف عن زيارتها أرسل رسولا من تلاميذه فيقرئها سلامة ويقول لها: "أن ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء".
فترفع بطرفها إلى السماء وتدعو له فلا يرجع رسوله إلا وقد عوفى الإمام من مرضه.
ولما مرض مرضه الأخير أرسل لها على عادته يلتمس منها الدعاء فقالت للقاصد " متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم" وسأله الإمام الشافعي ماذا قالت له السيدة نفيسة رضي الله عنها فقال له ما قالت فعلم انه ميت وأوصى أن تصلى عليه فلما توفى سنة أربعة ومائتين مروا به على بيتها فصلت عليه مأمومة.
وكان الذي صلى بها إماما أبو يعقوب الويطى احد أصحابه رضي الله عنه.
وكان مرور جنازة الإمام الشافعي على بيتها بأمر "السري أمير مصر" لأنها سألته في ذلك إنفاذا لوصية الإمام الشافعي رضي الله عنه لأنها لم تتمكن من الخروج إلى جنازته لضعفها من كثرة العبادة.
وقد قال بعض الصالحين ممن حضر جنازته أن الله قد غفر لكل من صلى على الشافعي بالشافعي … وغفر للشافعي بصلاة السيدة نفيسة عليه رضي الله عنهما.
ومات الشافعي فقيرا ولم يبلغ من العمر أكثر من 54 سنة ودفن بالقرافة الصغرى بمصر رحم الله الشافعي ورضي عنه.
وجاء ذكر الشافعي بعد وفاته في مجلس فقالت السيدة نفسية تمتدحه وتترحم عليه (رحم الله الشافعي فقد كان رجلا يحسن الوضوء) وقالت عنه أيضا "كان الإمام الشافعي صبورا بكل ما في الصبر من معنى يتلقى الشدائد بقلب ثابت ويسعى هادئا ليزيل ما ألم به معتمدا على الله حق الاعتماد ومتوكلا عليه حق التوكل … شاكرا ما ابتلاه ضارعا أن يكشف عنه الضر مستبشراً باجر من عند الله بقدر ما يتحمل من آلام ويظل هكذا دون أدنى ضجر أو ملل حتى يزيل الله ما نزل به وحينئذ يصلى لله شاكرا فهو عند الابتلاء كان شكورا… وعند دفع الضر كان من الشاكرين".