- فيها توفير للوقت والجهد ، إذ أنك تحفظ السورة مرة واحدة في العمر ، ثم تستثمر حفظها وتنتفع به ، أما تعاقب الحفظ والنسيان فهذا يستهلك الوقت والجهد ، ويحرم من التنعم بالقرآن في الحياة ، بل يوجد النزاع والخصام بين حفظ الجديد والمراجعة لما تم حفظه ، وأيضا يوجد القلق والحرج عند من حفظ شيئا من القرآن ثم نسيه ، وربما كان سببا في اليأس من الحفظ وتركه.
18- يمكن تربية الأسرة على (الحفظ التربوي) بوضع جدول أسبوعي لكل منهم وتسميعه لهم في النهار ، وتذكيرهم به ، وحثهم على القيام به في الليل ، ومكافأتهم عليه ، حتى يتدربوا ، ويشبوا عليه ، ويكون مصاحبا لهم لا ينفكون عنه ، ولا يطيقون فراقه ، ويكون مصباحا يضيئ لهم طريق الحياة .
19- من يقرأ ما يحفظه - ولو كان سورة واحدة - كل أسبوع خيرٌ ممن يقرأ مائة سورة كل شهر ، الأول يقرأ السورة كل سبعة أيام ، والثاني يقرأ السورة كل ثلاثين يوما( ) فأيهما سيكون حفظه للمعاني أثبت ، وأقوى ، وأقرب للذكر والعمل ، لا عبرة للكثرة مقابل القوة ؛ فقليل قوى خير من كثير ضعيف ، وهذا يذكرني بما جاء في سنن أبي داود( ) من حديث ثوبان _ قال قال رسول الله § : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" ، وعليه فليس الهدف حفظ ألفاظ كثيرة من القرآن ، بل الهدف : تكرار محفوظ من القرآن كل سبعة أيام في صلاة بنية التدبر ليتم الشفاء من الوهن ، أيَّاً كان هذا المحفوظ حتى لو سورة واحدة ، فهو خير ألف مرة من حفظ كثير لا يتصف بما ذكر ، فإن وجد حفظٌ كثير أو القرآن كاملا بحسب ما ذكر فهو أولى وأقوى من القليل ، فالمهم القاعدة السابقة ، ومتى رأيت أن الوقت يضيق فعليك بتقليل المقدار مع بقاء التكرار .
المفتاح السابع : تكرار الآيات
إن الهدف من التكرار هو التوقف لاستحضار المعاني ، وكلما كثر التكرار كلما زادت المعاني التي تفهم من النص ، والتكرار - أيضا - قد يحصل لا إراديا تعظيما أو إعجابا بما قرأ ، وهذا مشاهد في واقع الناس حينما يعجب أحدهم بجملة أو قصة فإنه يكثر من تكرارها على نفسه أو غيره ، التكرار : نتيجة وثمرة للفهم والتدبر ، وهو أيضا وسيلة إليه حينما لا يوجد ، قال ابن مسعود _ : "لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة "( ) ، وقال أبو ذر _ : "قام النبي § بآية حتى أصبح يرددها {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [(118) سورة المائدة]"( ) ، وعن عباد بن حمزة ’ قال: " دخلت على أسماء ~ وهي تقرأ: { فَمَنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم }[(27) سورة الطور] قال: فوقفت عليها فجعلت تستعيذ وتدعو ، قال عباد: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو" ( ) ، وعن القاسم بن أبي أيوب ’ أن سعيد بن جبير ’ ردَّدَ هذه الآية :{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [ (281) سورة البقرة ] بضعا وعشرين مرة( ) ، وقال محمد بن كعب القرظي ’ : لأن أقرأ ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) و (القارعة ) أرددهما وأتفكر فيهما أحب من أن أبيت أَهُذُّ القرآن"( ) ، وردَّدَ - الحسن البصري ’ - ليلة {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(18) سورة النحل] حتى أصبح ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع علىنعمة , وما لا نعلمه من نعم الله أكثر "( ) ، وقام تميم الداري _ بآية حتى أصبح {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [(21) سورة الجاثية] ( ) ، قال ابن القيم ’ : هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصبح " ( ) ، قال النووي ’ : " وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة " ( ) ، وقال ابن قدامة ’: " وليعلم أن ما يقرأه ليس كلام بشر وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه فإن التدبر هو المقصود من القراءة وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها"( ) .
المفتاح الثامن : ربط الألفاظ بالمعاني
المسألة الأولى: مفهوم هذا المفتاح
هو : ربط اللفظ بالمعنى ؛ أي : حفظ المعاني ، وهو أيضا: ربط الآية بالواقع ؛ أي: تنزيل الآية على المواقف والأحوال اليومية التي تمر بالشخص ، هو التمثل بالقرآن في كل حدث يحصل في اليوم والليلة ، بحيث يبقى القرآن حيَّاً في القلب تؤخذ منه الإجابات والتفسيرات للحياة ، وتؤخذ منه التوجيهات والأنظمة في كل صغيرة وكبيرة ، وهذا الربط يعرف عند علماء النفس بالاقتران الشرطي ، ويعرف بالوقت الحاضر عند علماء البرمجة بالإرساء ، وهو ما يعرف في القرآن والسنة بالذكر أو التذكر ، وهو يعني تداعي المعاني ، كما قال تعالى؛{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [(201) سورة الأعراف] .
المسألة الثانية: أنواعه
الربط أو التداعي نوعان : عفوي وقصدي ، فالعفوي إلهامات وفتوحات يفتحها الله تعالى على من يشاء من عباده ، وقصدي : وهو أن تقوم بالربط ثم التكرار حتى يرسخ ويثبت ، والتكرار الذي يحقق الربط نوعان : الأول : التكرار الآني ، و الثاني : التكرار الأسبوعي ، أما التكرار الآني فسبق بيانه في المفتاح السابع ، وأما التكرار الأسبوعي فسبق بيانه في المفتاح الخامس .
المسألة الثالثة: كيفية الربط
أن تكرر اللفظ مع استحضار معنى جديد في كل مرة ، حتى تمر على كل المعاني التي يمكن أن تتذكرها من النص أو اللفظ ، وقد سبق ذكر كلام الحسن البصري ’ حين قام الليل كله يكرر قول الله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فلما قيل له ؟ قال : إن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع علىنعمة.
المسألة الرابعة: حسابات الألفاظ والكلمات
الألفاظ قوالب المعاني وحساباتها البنكية ، فكلمة عند شخص لها خمسة معاني ، وعند آخر سبعة معاني ، وعند ثالث : صفر خالية لا تعني له شيئا .
إن إدارك ووعي الناس لآيات القرآن يتفاوت تفاوتا كبيرا مع أن الآية هي الآية يقرؤها هذا ويقرؤها هذا وإن ما بينهما في عمق فهم الآية أو الجملة كما بين المشرقين ، تجد مثلا اثنين يسمعان الكلمة نفسها الأول يبكي والثاني يضحك ! لماذا ؟ مثلا : كلمة النار يسمعها الرجل الصالح المؤمن فيبكي ويقشعر جلده خوفا من عذاب الله ، ويسمعها الغافل فيضحك لأن هذه الكلمة تذكره بالشواء والمرح واللهو لا يفهم منها إلا هذا ؟
المفتاح التاسع : الترتيل
الترتيل يعني الترسل والتمهل ، ومن ذلك مراعاة المقاطع والمبادئ وتمام المعنى ، بحيث يكون القارئ متفكرا فيما يقرأ ، قال الحسن البصري ’ : يا ابن آدم كيف يرق قلبك وإنما همتك آخر السورة " ( ) وقد أنكر ابن مسعود _ على نهيك بن سنان ’ سرعته في القراءة حين قال : قرأت المفصل البارحة فقال عبد لله _ : "هذّاً كهذِّ الشعر ! إنا قد سمعنا القراءة وإني لأحفظ القُرَناء التي يقرأ بهن النبي §"( ) ، وقال ابن مسعود _ لعلقمة ’ -وقد عَجِل في القراءة -: " فداك أبي وأمي رتل فإنه زَيْنُ القرآن " ( ) ، قال ابن مفلح ’: "أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها "( ) ، وصفة قراءة القرآن التي نقلت إلينا عن النبي § وصحابته è تدل على أهمية الترسل وتزيين الصوت بالقراءة ، فمن ينظر إلى أي كتاب في التجويد يدرك هذه الحقيقة بجلاء ووضوح ، ولم ينقل ذلك إلا للقرآن ، فالأحاديث ولخطب والمواعظ لم ينقل فيها شئ من ذلك ، وإنه لفرق كبير في التمهل والتأني بين من يطبق أحكام التجويد ومن لا يطبقها بل يهذ القراءة هذّاً .
عن حذيفة _ قال : " صليت مع النبي § ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلا ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ " ( )
وإذا تعارض مقدار القراءة مع صفتها قدمت الصفة ، سئل زيد بن ثابت _ : كيف ترى في قراءة القرآن في سبع ؟ قال : حسن ، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشر أحب إلي ، وسلني لم ذلك ؟ قال: فإني أسألك ، قال : لكي أتدبره وأقف عليه " اهـ ( ) ، قال ابن حجر ’ : "إن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة ، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة ، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات وقد يكون العكس" اهـ ( ) ، والصحيح: أن من أسرع فقد اقتصر على مقصد واحد من مقاصد قراءة القرآن وهو : ثواب القراءة ، ومن رتل وتأمل فقد حقق المقاصد كلها وكمل انتفاعه بالقرآن ، واتبع هدي النبي §وصحابته الكرام è .
المفتاح العاشر : الجهر بالقراءة
عن أبي هريرة _ قال §: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به " ( ) ، وعنه أيضا _ أنه سمع النبي § يقول:" ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن "( ) ، وعن أبي موسى _ قال : قال النبي § : "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ؛ وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار "( ) ، وعن أم هانئ ~ قالت : "كنت أسمع قراءة النبي § وأنا على عريشي"( ) ، وعن أبي قتادة _ أن النبي § خرج ليلة فإذا بأبي بكر _ يصلي يخفض صوته ، ومَرَّ على عمر بن الخطاب _ وهو يصلي رافعا صوته ، قال : فلما اجتمعا عند النبي § قال: يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك ؟ قال : قد أسمعت من ناجَيْتُ يارسول الله ، وقال لعمر : مررت بك وأنت تصلي ترفع صوتك ؟ فقال : يا رسول الله أوقظ الوسنان ، وأطرد الشيطان ، فقال النبي §: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا ، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا "( ) وسئل ابن عباس ù عن جهر النبي § بالقراءة بالليل فقال :"كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد حافظ أن يحفظها فعل "( ) ، وقال ابن عباس ù - لرجل ذكر له أنه سريع القراءة - :" إن كنت فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ، ويعيها قلبك "اهـ( ) ، وعن ابن أبي ليلى ’ قال:" إذا قرأت فاسمع أذنيك فإن القلب عدل بين اللسان والأذن"( ) .
إن الجهر بما يدور في القلب أعون على التركيز والانتباه ولذلك تجد الإنسان يلجأ إليه قسرا عندما تتعقد الأمور ويصعب التفكير.
البعض عند قراءته للقرآن يسر بقراءته طلبا للسرعة وقراءة أكبر قدر ممكن وهذا خطأ ومن الواضح غياب قصد التدبر في مثل هذه الحالة.
إن الجهر درجات أدناها أن يسمع المرء نفسه وتحريك أدوات النطق من لسان وشفتين ، وأعلاها أن يسمع من قرب منه ، فما دونه ليس بجهر وما فوقه يعيق التدبر ويرهق القارئ ويؤذي السامع .
ومن فوائد الجهر استماع الملائكة الموكلة بسماع الذكر لقراءة القارئ ، وهرب وفرار الشياطين عن القارئ والمكان الذي يقرأ فيه ، وفي ذلك تطهير للبيت وتعطير له وجعله بيئة صالحة للتربية والتعليم .
إن بيتاً يكثر فيه الجهر بالقرآن هو بيت - كما قال أبو هريرة _ - كثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين والبيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله ضاق بأهله وقل خيره وحضرته الشياطين وخرجت منه الملائكة" ( )
خاتمة البحث
أخي المسلم بفعلك لما سبق ذكره من مفاتح التدبر تكون كمن استعمل منظارا لتقريب وتكبير الصور ، وهذا ما يحصل تماما لقارئ القرآن بهذه الكيفية فإنه تكبر في نظره المعاني ، وتزداد عمقا ، ويغزر فهمه لمضامينها حتى إنه لينتبه إلى معان لم يكن يدركها من قبل ، وألفاظ كان يمر بها دون أن يشعر ، حتى إنه ليقول : سبحان الله ! لقد كنت أقرأ هذه السورة ، أو الآية منذ سنوات ؛ لكن لم أفهمها كما فهمتها اليوم ؟
إن البعض منا يريد أن يتدبر القرآن ، ويتأثر به ، وهو لم يهيئ الأسباب والوسائل المساعدة على فهمه وفقهه ، حتى أدنى درجات التركيز والهدوء لا يوجدها حين قراءته للقرآن ، لماذا ؟ لأنه قصر همته على نطق الألفاظ ، وما يحصل من حسنات مقابل ذلك .
إن من يواظب على قراءة القرآن كما تم بيانه ووصفه من حال السلف فإن هذا سيؤدي إلى حياة قلبه ، وقوة ذاكرته ، وصحة نفسه ، وعلو همته ، وقوة إرادته ، وهذه هي مرتكزات النجاح الحقيقية ، ذلكم النجاح الشامل المتكامل الثابت في حال الشدة كما هو حاصل في حال الرخاء.
إن من يطبق هذه المفاتيح العشرة فسيرى بأم قلبه نور القرآن ، ويصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين مدحهم بقوله سبحانه : { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }[(58) سورة مريم] ، نسأل الله الكريم بمنه وفضله أن يجعلنا منهم ، والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملحق (1) : رحلتي مع الكتاب
بدأت رحلتي مع هذا الكتاب منذ أن عقلت وأدركت أن الحياة مجاهدة ، ومصابرة ، وصراع بين الحق والباطل ، والخير والشر ، وأن الثبات على الحق وتحصيل الخير لا بد له من جهد ، ومن عمل .
كانت البداية مع كتاب الجواب الكافي أقرؤه كلما أحسست بضعف السيطرة على النفس ، وضعف الإرادة والوقوع في النقائص ، فكنت أجد فيه العلاج وانتفع به حينا من الدهر ، ثم انتقلت إلى كتب المثقفين والمفكرين المعاصرين أمثال : قوارب النجاة ، وحديث الشيخ ، وتربيتنا الروحية ، وجدد حياتك ، وغيرها من كتب جعلتها قريبة مني أقرؤها لآخذ منها الزاد الروحي - على حد تعبير أولئك الكتَّاب .
ثم جاءت فترة تعلقت بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامه .
وفي المرحلة الجامعية كان التوجه نحو كتب الغرب والتي بدأت تغزو الأسواق ، من ذلك : كيف تكسب الأصدقاء ، دع القلق وابدأ الحياة ، سيطر على نفسك ، سلطان الإرادة وغيرها ، فكنت أرجع إليها كلما حصلت مشكلة أو احتجت لعلاج مسألة ، وكنت قرأتها أكثر من مرة ولخصت ما فيها على شكل قواعد وأصول ، وفي حينها كان يتردد على خاطري سؤال محير : كيف يكون العلاج والتغيير في مثل هذه الكتب ولا يكون في القرآن ؟
ثم تلتها مرحلة أخرى تعلقت بكتاب مدارج السالكين وخاصة بعدما طبع تهذيبه في مجلد واحد فكان رفيقي في السفر والحضر أقرأ فيه بهدف تقوية العزيمة ومجاهدة النفس .
ثم جاءت مرحلة لم يمض عليها سوى سنوات اتجهت إلى كتب وأشرطة القوة وتطوير الذات والتي بدأت تتنافس في جذب الناس ، فاشتغلت في الكثير منها طلبا للتطوير والترقية ، من ذلك : كتاب العادات السبع ، أيقظ قواك الخفية ، إدارة الأولويات ، القراءة السريعة ، كيف تضاعف ذكائك ، المفاتيح العشرة للنجاح ، البرمجة اللغوية العصبية ، كيف تقوي ذاكرتك ..كن مطمئنا ، السعادة في ثلاثة شهور ، كيف تصبح متفائلا ، أيقظ العملاق .... الخ من قائمة لا تنتهي ، كنت أقرؤها ، أو أسمعها بكل دقة وأناة باحثا فيها عما عساه يغير من الواقع شيئا ، ويحصل به الانطلاق والتخلص من نقاط الضعف ، ولكن دون جدوى ، وأحمد الله تعالى أنها كانت دون جدوى ، وأني نجوت من الفتنة بهذه المصادر البشرية للنجاح ، فكيف سيكون حالي لو كنت حصلت على النجاح من تلك الكتب ونسيت كتاب ربي إلى أن فارقت الحياة ؟
إن السؤال المحير ، والذي يدعو للعجب والاستغراب : هل كان مثل هذا التخبط حصل من شخص يعيش في مجاهل أفريقيا ؟ أو أدغال آسيا ولم يبلغه القرآن ؟ أو أنه حصل من شخص يحفظ القرآن وهو في المرحلة المتوسطة ومع هذا لم ينتفع به لأنه نسي هذه المفاتيح .
هذا هو السؤال المحير الذي كنت أبحث عن إجابته ؟ فوجدتها والحمد لله وضمنتها هذا الكتاب ، فإياك - أخي المسلم - أن ترحل من هذه الدنيا ولم تذق ألذ وأطيب ما فيها إنه القرآن كلام الله ، الذي لا يشبه التنعم به أي نعيم على الإطلاق ، وهو حاصل بإذن الله تعالى لمن أخذ بهذه المفاتيح التي هدي إليها سلفنا الصالح ، ففتحت لهم كنوز القرآن ، وبها فتحت لهم كنوز الأرض وخيراتها فكانوا خير أمة أخرجت للناس .
ملحق (2) : أفضل هدية يقدمها والد إلى ولده
إن أعظم هدية يقدمها والد إلى ولده ، وأعظم إحسان يسديه إليه ؛ أن يربيه على مفاتح تدبر القرآن - التي ذكرتها عن السلف - منذ الصغر حتى يتسلح بالقرآن في هذه العصر الذي كثرت فيه الفتن ، وانتشر فيه القلق والملل ، وزادت الأمراض النفسية ، وضعفت النفوس عن تحمل المصائب ، وصار الناس يبحثون عن التسلية والترويح عن النفس بوسائل شتى ، حتى أرهقتهم بدنيا وماليا ووصلوا معها إلى طريق مسدود وصدق عليهم قول الشاعر:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
إن من ينشأ على القيام بالقرآن ، يقرؤه كما وصفت ، فإنه ينشأ قوي النفس ، قــــوي البدن ، ثابت الخطى ، يشق طريقه في الحياة بلا مخاوف ، ولا مشاكل بإذن الله تعالى ،لأنه يجد التفسير الواضح الثابت لكل المواقف التي يمر بها ، ولكل المناهج والأطروحات التي تتنافس في إثبات وجودها ، وما زلت أسمع وأرى صوراً ومآسي لا نحرافات فكرية وخلقية تحصل من أبناء المسلمين ، وماذاك إلا بسبب التفريط في الربط بالقرآن حبل الله المتين ، الذي ما ضل من تمسك به ، والتمسك به لا يكون أبداً إلا بما سبق بيانه من وسائل ومفاتيح .
إن هذا أسهل وأخصر الطرق في تربية الأولاد لمن وفق إليه وقدر عليه ، أما من حرمه فإنه سيظل حبيس تجارب وطرق وأفكار لا أول لها ولا آخر ، تجارب ووسائل متباينة ومكلفة وصعبة التطبيق ، وضعيفة النتائج ، وهشة البناء لا تصمد للمواقف الصعبة واللحظات الحرجة .
تذكر أنك حين تربي ابنك منذ الصغر على القرآن بالطريقة التي وصفتها فإنك تثبت في قلبه رقيبا يصحبه أينما ذهب وفي كل وقت وحينها لا تحتاج أبدا إلى مراقبته ومتابعته لأن رقيبه مثبت في صدره وبقوة ؛ فتنام بذلك قرير العين وتجني ثمرة ما زرعته في قلبه في سنوات حياته الأولى .
ملحق (3) : القرآن والصيام
عن عبد الله بن عمرو ù أن رسول الله § قال : "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهــار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشعني فيه قال فيشفعان "( ) .
إن بين القرآن والصيام علاقة متينة ، فمن أعظم وأهم الحكم من مشروعية صيام نهار رمضان تهيئة القلب لتدبر القرآن حين القيام به في الليل ، والمشاهد أن كثيرا من الناس يُفوِّتون على أنفسهم هذه المصلحة العظيمة حينما يسرفون في الطعام والشراب وقت الإفطار والعشاء .
لقد أثبت الطب الحديث ، والطب البديل أهمية الصيام لصفاء القلب وقيامه بوظائفه المادية والمعنوية ، ولا أريد التفصيل في هذه القضية فالمقام لا يسمح لكني أرشد إلى بعض المراجع( ) وإن كنت على يقين من حكمة تشريع الصيام بدون عناء الرجوع إلى تلك الكتب وصرف الوقت والجهد في قراءتها يكفينا في هذا قول الله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } [ (184) سورة البقرة ] ، إنها رسالة من رب العالمين تحمل الكثير والكثير من الإشارات والإرشادات ، إن الله تعالى يقرر لنا هذه القاعدة العظيمة : أن الصيام خير لنا ، وإن من بعض خيره ما تم إثباته بالتجارب المخبرية ومن تجارب العلماء الذين يؤكدون على أهمية هذه العلاقة بين الصيام وبين التفكير والفهم والتدبر ، إن شواهد صحتها وأقوال أهل التجربة وأحوالهم من علماء المسلمين وغير المسلمين لا يتسع له كتاب وما لم ينقل عنهم من أقوال وأحوال أكثر وأكثر ، فالقليل منهم عَبَّر عن حاله ، وذكر ما وجد ، وغيرهم كثير وجد ولم يذكر.
فإن أردت حقا تدبر القرآن ، والتأثر به ، فعليك بهذا المفتاح العجيب ، وخاصة في رمضان إنه الصيام ، الصيام الصحيح الذي يحرص فيه الصائم على تطبيق ما جاء في حديثِ المِقْدَام بن مَعْدِي كرِبَ قالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ : « ماملأَ ابْنُ آدَمَ وِعاءً شَرَّا مِنْ بَطْنٍ ،بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيماتٌ يقِمْنَ صُلْبَهُ ، فإِنْ كان لا مَحَاَلَةَ ، فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ وِثَلُثٌ لِنَفَسِهِ » رواه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها ، وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب - لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة ’ - قال : " لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة".
ليس معنى الصوم أن تمسك عن الطعام والشراب مدة ثم تلتهم أضعاف ما أمسكت عنه ؛ هذا بكل تأكيد ليس صوما نافعا ، إن الصوم الذي ينفع صاحبه هو ما يقترن معه عدم الشبع حال الإفطار ، إن بعض الشباب يقول قد صمت فما وجدت الوجاء الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم . نقول : نعم إن كنت في وقت فطرك تتقاضى من وقت صومك وترد الصاع صاعين فهذا ليس بصوم على الحقيقة بل هو إرهاق للبدن وتعذيب له ، لأن الهدف من الصوم حماية الجسد عامة والقلب خاصة من سموم الأطعمة والأشربة ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإنه له وجاء " ؛ ذلك أن القلب إذا استراح من سموم الأطعمه صفا ورق .
قال المروزي ’ : قلت لأبي عبدالله - يعني الإمام أحمد ’- : " يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع قال : ما أرى" ، وعن نافع ’ عن ابن عمر ù قال : " ماشبعت منذ أسلمت "، وعن محمد بن واسع ’ قال : " من قل طُعْمُه فهم وأفهم وصفا ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد " ، وعن أبي سليمان الداراني ’ قال : "إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فلا تأكل حتى تقضيها ، فإن الأكل يغير العقل " ، وعن قثم العابد ’ قال : "كان يقال: ما قل طعم امريء قط إلا رق قلبه ونديت عيناه " ، وعن أبي عمران الجوني ’ قال :"كان يقال من أحب أن ينور قلبه فليقل طعمه " ، وعن عثمان بن زائدة ’ قال:" كتب إليَّ سفيان الثوري ’ : إن أردت أن يَصِحَّ جسمك ويَقِلَّ نومك فأقلل من الأكل " ، وعن إبراهيم بن أدهم ’ قال : "من ضبط بطنه ضبط دينه ، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة" ، وقال الحسن بن يحيىالخشني ’ : من أراد أن يغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه ، وقال أحمد بن أبي الحواري ’: فحدثت بهذا أبا سليمان فقال : إنما جاء الحديث " ثلث طعام وثلث شراب " ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سدساً ، وعن الشافعي ’ قال : ما شبعت منذ ستة عشر سنة إلا شبعة أطرحها ، لأن الشبع يثقل البدن ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة ، وقالت عائشة ~ : " أول بدعة حدثت بعد رسول الله § : الشبع ، إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بها نفوسهم إلى الدنيا .
رسالة إلى كل معلم ومعلمة في العالم
أخي المُعلِّم أختي المُعلِّمة : يا من يسر الله لكَِ قلوب الناشئة ، تسمع لك وتطيع ، وتُقِدِّس كلامك ، وترى فيك القدوة الحسنة ، والمثل الذي يحتذى ، إليك أوجه هذه الرسالة : وهي أن تسعى جاهداً في توصيل ما تضمنه هذا الكتاب من أمور علمية وعملية بأسلوبك وطريقتك الخاصة ، بحيث يترسَّخ لدى الناشئة علماً وعملاً أن نجاحهم وسعادتهم وقوتهم بهــذا القرآن العظيم ، وَجِّههم إلى كيفية القيام بالقرآن ، وعلِّمهم أنه الطريق لتثبيت معانيه العظيمه في القـلوب ، علِّمهم كيف يدعون الله تعالى أن يرزقهم حب القرآن ، وأن يفتح لهم كنوزه ، وأن يضيئ لهم أنواره ، وضِّحْ لهم بتفصيل واستمرار أن الحياة بدون القرآن العظيم شقاء وضلال وضياع ، وأن الله تعالى أنزل هذا القرآن العظيم رحمة وهدى للعالمين .
احتوى الكتاب على عدد من الآيات ، والأحاديث ، وأقوال السلف ، مما يبين كيفية التعامل مع القرآن العظيم ، والانتفاع به ، فَسِّرْها واشرحها لهم ، واجعلهم يحفظون منها مايستطيعون ليكون حافزا لهم للعمل بها .
تفقدهم بين الحين والآخر ، وراقب تفاعلهم مع ما تعلمهم إياه في هذا الأمر المهم في حياتهم ، إنهم بذلك يكونون حسنة من حسناتك ، وغرسا من غراسك ، تسعد وتسر حين تراهم سعداء ، تراهم نافعين مؤثرين في أمتهم .
أرجو منك الاحتساب في توصيل مادة الكتاب ، لمن تحت يدك من فلذات أكبادنا ، الذين يؤلمنا واقعهم المأسوي ، وما يعانيه الكثير منهم من قلق ، وضياع فكري وخلقي ، في زمن كثر فيه قطاع الطريق وتنوعت أطماع الطامعين ووسائلهم ، وتخبط الكثيرون في البحث عن القوة والتطوير وتحقيق النجاح في الحياة ، وهو في أيديهم ، في هذا القرآن العظيم .
إن الكتاب يرسم الطريق المختصر والآمن والقوي للتربية والإصلاح ، ولكن الأمر يحتاج إلى توضيح وبيان لمن لم يستطع ذلك .
أسأل الله الكريم بمنه وفضله أن يجعلك مفتاحا من مفاتيح القوة والنجاح للأمة ، وأن يحقق على يديك النصر للإسلام والمسلمين .
المحتويات
مقدمة 5
دعوة للتواصل عبر موقع : القرآن والحياة 13
تمهيد : في معنى التدبر وعلاماته 14
المفتاح الأول: حب القرآن 19
المفتاح الثاني : أهداف قراءة القرآن 25
المفتاح الثالث: القيام بالقرآن 47
المفتاح الرابع : أن تكون القراءة في ليل 51
المفتاح الخامس : التكرار الأسبوعي للقرآن أو بعضه 54
المفتاح السادس : أن تكون القراءة حفظا 59
المفتاح السابع : تكرار الآيات 65
المفتاح الثامن : ربط الألفاظ بالمعاني 67
المفتاح التاسع : الترتيل 69
المفتاح العاشر : الجهر بالقراءة 71
خاتمة البحث 73
ملحق ( 1) : رحلتي مع الكتاب 74
ملحق (2) : أفضل هدية يقدمها والد إلى ولده 76
ملحق (3) : القرآن والصيام : 77